آخر تحديث : الثلاثاء ( 30-04-2024 ) الساعة ( 5:37:48 صباحاً ) بتوقيت مكة المكرمة
آخر الأخبار :

#تحذير: امطار غزيره وصواعق وتدفق السيول بالمحافظات news #عاجل:سيول وفيضانات مدمرة وانهيارات أرضية تضرب هذه المحافظه اليمنيهnews #عاجل:سيول جارفة وأمطار غزيرة تهدد سلامة سكان هذه المحافظات اليمنية خلال الساعات القادمةnews #روسيا : الضربات الامريكية البريطانية على اليمن غير مقبولةnews #كوبا: تحذر من استمرار العدوان الأمريكي البريطاني على اليمنnews #المرشد الإيراني علي خامنئي تعليقا على بدء الهجوم على إسرائيل: ستتم معاقبة النظام الشريرnews #عاجل: الحدث...اطلاق عدد من صواريخ كروز المواجهه باتجاه إسرائيل news #عاجل: تحذير لكافة المواطنين من مخاطرَ خلال ساعاتnews هذه الدول تعلن يوم غد الثلاثاء المتمم لرمضانnews رسميا : اليمن تعلن موعد يوم عيد الفطر المبارك news

صنعانيّات وقات... من كتاب "في ظلال بلقيس" ريم عبد الغني

صنعانيّات وقات... من كتاب "في ظلال بلقيس" ريم عبد الغني

الجماهير برس - بقلم / د. ريم عبد الغني      
   الاربعاء ( 12-11-2014 ) الساعة ( 4:16:11 صباحاً ) بتوقيت مكة المكرمة

  من كتاب "في ظلال بلقيس" بقلم / د. ريم عبد الغني ..صنعانيّات وقات...

رائحة التبغ تملأ المكان، هنا وهناك تناثرتْ "مداعات" (نراجيل) رشيقة ذات أبواق واسعة للغاية... "ربّما يتّسع كلّ "بوري" منها لأكثر من (كيلو) من الفحم"، فكّرتُ وأنا أتأمّل الأبواق العامرة بأوراق التبغ اليمنيّ الفاخر، وأتتبع النقش اليدويّ الجميل الذي يزيّن النراجيل من أسفلها إلى أعلاها، بدءاً من جسم المداعة النحاسيّ الرئيس "الجحلة"، مروراً بـ "القطب"، وانتهاءً بـ"البوري" الذي يُوضع عليه "التتن" (التبغ) وفوقه أحجار النار(الفحم)، ولعل أطرف ما في المشهد هو "القصبة" (الخرطوم) الطويلة التي يصل طولها أحياناً إلى عدّة أمتار ليتيسّر تنقّلها بين الحضور.

 

مضيفتنا ترحّب بنا بحرارة، عناقها يغمرني بعبق الفلّ الممزوج بعطر عربيّ.. تجذبني من ذراعي لتجلسني يمين سيّدة قدّمتها لي على أنّها "الضيفة الكبيرة"، المكان المميّز اختارته لي تعبيراً عن احتفائها بمقدمي، واليمنيّون عموماً يُحسنون إكرام الضيف ويُجيدون وفادته.

في حالة انبهار، مأخوذة كـ"أليس في بلاد العجائب".. أتربّع فوق المجلس المنخفض.. أُسند ظهري إلى الوسائد خلفي.. وأتأمّل.

الصالة طويلة بشكل ملحوظ بالنسبة إلى عرضها، عشرات السيّدات بأثوابهن الزاهية الألوان التي يبدو أغلبها تراثيّ الطابع، بعضهن يعتمرن غطاء الرأس الصنعانيّ الأقرب إلى طربوش تركيّ مغطّى بقماش رقيق مشغول.. تأمّلت هذا الحشد الكبير من نساء صنعاء فوق الأرائك الشرقيّة المنخفضة المكسوّة بقماش محليّ يغلب عليه اللونان الأحمر والأسود، وفكّرت بما قاله أبو "الحسن الهمداني" عنهنّ قبل ما يزيد على ألف عام "ليس يلحق بحسناء صنعاء امرأة من العالم، ولا يلحق لشرعتهنّ وظرفهنّ امرأة, وفيهنّ غيرة, ولهنّ شكل ودلال وملق".

كنتُ أبحثُ في ذهني عن مدخل للحوار مع جارتي، حين بادرتني بالسؤال عن تقاليد الأعراس في سوريّة..

تحت وطأة العيون والآذان التي كانت ترصدني من كلّ مكان، تعمّدتُ الاختصار في الإجابة، قبل أن أنتقل إلى سؤالها بدوري عن عادات الزواج في اليمن، لتجيبني:

"اليمن عالم واسع، لكلّ منطقة فيه عموماً عاداتها وتقاليدها الخاصة، بالنسبة للزواج على سبيل المثال.. في بعض المناطق لا تأتي العروس بيت والدتها إلّا بعد شهر أو شهرين من الزواج على الأقل, وقد يصل في بعض المناطق إلى سنة"، ثم تبتسم مضيفةً: "وفي مناطق اُخرى ما أن تطأ العروس عتبة منزل الزوجيّة بقدمها حتّى يُسارع العريس بوضع قدمه فوق قدمها، فإذا نجحتْ في سحبها بسرعة كان معنى ذلك أنّها ستتولى إدارة البيت بلا منازع، وإنْ نجح العريس بالضغط على قدمها أولاً كان هو سيّد البيت في كلّ صغيرة وكبيرة".

استنشقتْ "نفساً" طويلاً من "مداعتها" قبل أن تتابع: "الحزام الفضّة من الأساسيّات التي يقدّمها العريس للعروس -لاسيّما في جنوب اليمن- وهو بمثابة "المحبس" أو خاتم الزواج عندكم".

هُيّئ لي أن المكان خلا إلا منّا نحن الاثنتين، وأنا أُصغي بتركيز شديد للسيدة اليمنيّة وهي تشرح بإسهاب: "في كثير من مناطق اليمن يستمر العرس لعدّة أيّام، في أبين مثلاً يدوم أربعة أيّام: الأوّل ويُسمّى يوم "الزقرة" أو "المحجبة" وتجتمع النساء فيه "للإمساك" بالعروس، ويُشترط في من تُمسكها أن تكون سعيدة في حياتها كي تُسعد العروس في حياتها أيضاً، ثم يُذبح خروف فداء للعروس التي يُغطّى رأسها بقطعة قماش تُسمّى "الجماش" وتُحجب عن الرجال.

اليوم الثاني هو يوم "الحنّاء"، و"الحنّاء" من الطقوس المهمّة التي تُضفي على العرس اليمني نكهته الخاصّة، طقس يشترك فيه الرجال والنساء، حيث يقوم الرجال بتحضير الحنّاء في المساء، وفي الصباح يُخرجون العريس من البيت محمولاً على الأكتاف، يُمدد على الأرض ثم يدهنون جسمه بالحنّاء وهم يرددون "حريو وأنا بعدك حريو" (أي عريس وأنا بعدك عريس)، أمّا النساء فينقشن الحنّاء على أيدي وأقدام العروس، ويطلون وجهها ب"الغسل" المستخلص من أوراق شجر السدر، وهنّ يرددن أهازيج خاصّة ومنها:

الب ما يحنّي حنّوا له

على الحنّاء على الحنّاء ويهنا من تحنّا به

تحنّاء به غُصين البان دي عاده شخص نابه

وعلى الحنّاء وعلى الحنّاء حنّوا بنتنا لبن سيدنا

ساعة الحنّاء تشفي المارود

وعلى ذات الإيقاع الموسيقي يتابعون سوق عشرات الأبيات الشعريّة المماثلة.

وبالمناسبة فالحنّاء –التي يُزرع أجود أنواعها في حضرموت-لا تُستخدم للزينة فحسب، بل للصباغة والعلاج أيضاً ، في اليمن وكذلك في مصر والسودان والهند وغيرها.

في اليوم الثالث "الغسل" تقوم النساء بغسل العروس بالماء، وفي الرابع وهو يوم "الأخضر" أو "البدعة"، تقوم امرأة يلقبونها ب"الخرّازة" بتزيين العروس وإلباسها الثوب الأخضر من رأسها حتى قدميها وتنقيبها بنقاب أخضر مزيّن بالذهب، إذ لا يجوز أن تكشف العروس عن وجهها في ذلك اليوم للضيوف أبداً، أمّا فستان العرس الأبيض فتلبسه بعدها في يوم "المرواح" أي يوم الزفاف.

أتابع أناملها الرقيقة البيضاء تقطف بعناية وريقات غصن قات تناولته من حزمة خضراء صغيرة ملفوفة بمنشفة بيضاء مبللة أمامها، حزمة تشبه حزم أوراق القات الأخرى التي رُصّ كلّ منها أمام سيدة في المجلس بقرب زجاجة ماء صغيرة وعلبة مشروب غازي وقلس (كوب) زجاجي.

استمرّت جارتي برصف الأوراق الخضراء اللامعة في باقة صغيرة بين رؤوس أصابعها.. ثم فاجأني أن مدّت بها يدها نحوي.

ارتبكتُ ولم أعرف كيف أتصرّف للوهلة الأولى.. اللعنة، ما الذي أتى بي الليلة هنا وأنا ضدّ القات على طول الخط؟، لم أكنْ أعرف أنّ معظم الدعوات في صنعاء تعني بالضرورة "مقيل قات"، الوسيلة الاجتماعية الأولى للتواصل بين الناس هنا، وطالما اعتقدت أنّ هذه العادة السيّئة مقصورة على الرجال فقط!.

فوزيّة تميل على أذني تهمس بضرورة أنْ أقبل الحزمة المشؤومة، لأنّ رفضها سيُعتبر إهانة للضيفة الكبيرة بعد أن نسّقتها لي بنفسها، أتناولها بتردد من يدها.. تبتسم و تُشير إلى فمها أن "امضغيه" مثلي.

مجدّداً تضغط فوزيّة على ذراعي مُحذّرة من الرفض، أجاهد للقبول محاولةً تجاهل اعتراض عقلي الرافض لموضوع القات جملةً وتفصيلاً، أليس القات آفة اليمن ومشكلة مشاكله؟ التي تجعل عالماً كالدكتور عبد العزيز المقالح يردد:

أنا من بلاد القات, مأساتي تضج بها الحقب

أنا مـــن هناك قصيدة تبكي وحرف مغترب

ولمنْ لا يعرفون الكثير عن القات –لا تقلقوا، لن أعتبرها فرصة لأتحفكم بمحاضرة حوله ولكن- ربّما يكون مفيداً أن نتّفق على بعض النقاط:

بحسب معرفتي المتواضعة التي كوّنتها من خلال قراءاتي وتعايشي مع اليمن واليمنيين لسنوات طويلة، فالقات نبات ذو لون أخضر بنيّ مشوب بالحمرة، من الفصيلة السيلاسترية واسمه العلمي (سيلاسترس إدوليس، Celastrusedulis)، ينمو على شكل شجيرات دائمة الخضرة قد يصل طولها إلى خمسة أمتار، يُزرع أساساً في اليمن وإثيوبيا (الحبشة) التي يُعتقد أن نبتته انتقلتْ منها إلى اليمن، وقد اكتُشف بطريق الصدفة حين لاحظ راعي أنّ قطيعه يزداد إدراراً ونشاطاً بعد أكله من هذه الشجيرات بالذات.. وليته لم يُكتشف.

ولنبتة الشيطان -كما يسمّونها- أنواع عديدة، وهي نبتة قويّة لا يذلّها عطش ولا يقهرها إهمال، وحتّى الجراد حين تهاجم أسرابه اليمن أحياناً.. يأكل كلّ شيء أخضر.. كلّ شيء.. ما عدا القات.. تصوّروا..

ولأنّه غالي الثمن نسبيّاً ويُعطي عدّة مواسم في العام، فقد تشكّلت طبقة اقتصاديّة قويّة تعيش على تجارة القات وتسويقه وبيعه وزراعته.. الخ، فانتشر بشكل هائل.. حتّى صار من العلامات الفارقة في ملامح المجتمع اليمني، و طبعت تقاليده بصمتها على ثقافة اليمن وفنونه وتراثه، بل اندس حتّى في الأشعار والأغاني، والفنان محمد محسن عطروش يغنّي مشيراً إلى بائعات القات من صبايا جبل صبر الفاتنات:

يابايعات البلس والقات ياحوريات

يانازلات من علالي البندر

يالابسات الذهب في زينات

ياسعد من يشتري من صبايا صبر الأخضر

وللقات في الواقع أسواقه الخاصّة، يرتادها الناس في فترة الظهر بعد انتهاء أعمالهم, أو تعمّدهم الانصراف منها باكراً لشراء "تخزينة" اليوم، التي يتراوح سعرها عادة ما بين300 و1000ريال يمني (خمسة دولارات وسطيّاً)، ويمكن استشفاف الوضع المادي لليمني من نوع القات الذي يشتريه، القات الغالي الثمن يسمّونه "قات الظَلَمة" أو "الورثة" أي من يملكون أموالاً لم يتعبوا بجنيها، أمّا القات المتوسّط الثمن فيُسمّى "قات الموظفين"... على كلّ حال، غالٍ أو رخيص، فهم يحملونه -بعد وجبة الغداء- في باقات إلى "مقايل" القات ويبقون أسراه حتّى المساء، وحتى المضطرون للعمل منهم -كالسائقين والفلاحين أو الباعة مثلاً- فهم يمضغونه أثناء العمل.

وعمليّة مضغ القات تُسمى "التخزين"، يضع فيها "المُخزِّن" حفنة من أوراق القات في فمه.. يلوكها ببطء ليمتصّ -على مدى ساعات- مكِوّنات القات التي تحمل عنصرين أساسيين في تخدير الجسم، وذلك عبر تمرير جرعات من الماء أو المشروبات الغازيّة على مضغة القات "المُخزّنة" في جوف الفم، وقد عرفتُ لاحقاًً أنّ متذوّقي القات "المحترفين" لا يشربون معه إلّا "المزغول" وهو قهوة محلّاة، أمّا الماء فيحرصون على تناوله بالملعقة, لضبط كميّاته المحدودة التي ستمرّ على كرة القات في باطن الخد، وكي يحافظ على نكهته، فهم لا يغسلون القات عادة.. بل يكتفون بمسحه بالورق أو الأصابع.

وبعكس ما يعتقد الكثيرون، فمشكلة القات الأساسيّة ليست صحيّة بالدرجة الأولى، بل هو ظاهرة اجتماعيّة خطيرة، وكارثة وطنيّة لها آثارها الاقتصاديّة السلبيّة الفادحة، إذ يستهلك جزءًًا كبيراً من المياه والأراضي الزراعيّة، ويكسر القلب أنْ نشهد بصمت أشجار البن والعنب التي اشتُهرت بها اليمن عبر مئات السنين -وهي مصدر مهم للدخل القوميّ- تُنزع تدريجيّاً ليُدسّ مكانها القات الذي تبقى دورته الاقتصاديّة داخل البلاد فلا يجني لها إلا الوبال.

ويُحمّل شراء القات يوميّاً المواطن اليمني أعباء ماليّة ثقيلة تكون غالباً على حساب مخصصات بيته، مما يُرهق الأسرة ويحرمها كثيراً من الكماليّات أو الأساسيّات أحياناً، ناهيك عن أنّه قد يوسوس للبعض بسلوك طرق فاسدة لتأمين كلفة القات الشهريّة، سيّما وأنّ هذه العادة الشعبيّة هي الوسيلة الوحيدة تقريباً لدخول المجتمع اليمنيّ بعد أنْ غُيّبتْ معظم الفعاليّات الاجتماعيّة والثقافيّة التي تجمع الناس وتحرّض تفاعلهم وتطوّرهم، كالمسارح والمعارض والأندية الثقافيّة وغيرها، واستُعيض عنها بمجالس القات، وقد أخبرتني أستاذة جامعيّة بامتعاض "أنّه حتّى مجالس الجامعة الرسميّة قد تُؤجّل أحياناً لتُنقل إلى "المقايل" المسائية مما يحرم الأستاذات أن يدلين بدلوهنّ في هذه المجالس، وبذات الطريقة انعكست هذه الظاهرة سلباً على الحضور النسائي في المنتديات الثقافية مما حدّ من انتشار الأدب النسائي"!

ملايين الساعات التي يهدرها اليمنيّون في تعاطي القات يوميّاً تنخر أيضاً أسرهم، إذ تشغل مجالسه الرجال والنساء عن أطفالهم الذين يتلقّفهم القات والشارع والضياع، قصّة لخّصها بألم الشاعر محمد محمود الزبيري ببضعة كلمات: "شيطان نبت من الأرض ليلتهم غذاء النباتات البريئة، ثم أوقع الإنسان اليمني في فتنته، وزاحم الأغذية في معدته، وجرى مجرى إبليس في دمه، وولج ولوج اللص إلى خزائنه، يطارده صباحاً في رؤوس الجبال، ويؤرقه ليلاً مشرداً في متاهات الخيال، يهزأ بعقله، وأعصابه، متنقلاً بينهما بين السرور والحزن وبين الإقدام والإحجام وبين الهزيمة والنصر وبين الغنى والفقر وبين المنطق والجنون".

أعرف مسبقاً أنّ المدافعين عن القات سيختلفون مع هذا الرأي، فهم يرون في جلسات القات واحات يتجلّى فيها إبداع المثقفين والفنانين والكتّاب، يصلون خلالها إلى أعلى درجات التركيز والتحليق والثقة بالنفس، ويقولون إنّ المرء يكون قادراً -بعد تخزين القات- على التفكير العميق وشحذ العقل إلى درجة استحضار تفاصيل بعيدة قلّما تسعفه الذاكرة عادة في استرجاعها...

لكنه ليس سوى وهم كبير، فالباحثون يجزمون أنّ جودة الكتابة لا ترتبط مطلقاً بالقات، وأنّ اليمني إنّما يستعين به للقضاء على الفراغ والشعور بالوحدة محاولاً بلوغ الأمان النفسي من خلال التواصل الاجتماعي في جلسات القات، والانتقال إلى عالم الأحلام والخيالات لاكتساب سعادة مؤقتة وتناسي ظروفه الحياتيّة الصعبة، مهمّشاً قيماً ذات معاني سامية وأهمها قيمة العمل الذي تهرقه جلسات التعاطي التي تستهلك وقتاً طويلاً من بعد الظهيرة إلى أوقات متأخرة من الليل، وربّما حتى الفجر.

و يتمترس فريق المدافعين وراء حجّة أنّ القات لا يسبب الإدمان ولايدفع بمن يتناوله إلى القيام بفعل مشين غير واع، ويعتبرونه مجرّد نبات منشّط مثل الشاي تماماً، زاعمين أنّ الفرق الوحيد هو في طريقة تعاطيه، حيث يتم تجفيف أوراق الشاي بعد قطفها ثم تُطحن وتُغلى لاستخراج مكوّناتها المنشّطة، بينما يُمضغ القات على مدى ساعات في جلسات المقايل ليمنح من يتناوله دفقاً طويل الأمد من النشاط الذهني والبدني.

بل ويسوقون سلسلة من فوائده الصحيّة، يعالج السكري, ويخفّض الوزن, وغير ذلك، ويدّعون أن سيّئته الصحيّة الوحيدة هو أنه قد يسبب أحياناً -على المدى الطويل- بعض أمراض اللثّة، وذلك ليس لعيب فيه أصلاً بل نتيجة معالجته مؤخراً بالمبيدات والأسمدة الكيماوية السامة؛ لتسريع نموّه بغرض زيادة الكسب المادي.

ويترجمون هذه الحالة الغريبة من الولع بالقات في تراث ضخم من القصائد والأغاني، كأبيات الشاعر عبدالرب احمد الحميقاني:

مجالسه لآلئ فاغتنمها

وذكر الله فيها مستدام

وكم جمعتْ أُناساً بعد هجر

وبُعْدٍ وافتراق واختصام

بمضغ القات يتّضح المخفى

وتكتشف الحقيقة من حطام

وتسمعهم يتناقلون أبيات الشاعر القمندان:

هل أعجبك يوم في شعري غزير المعاني

ودقة ترتيل آياتي وشاقك بياني

وأنت بالعود تتهنى وطعم المتاني

ويشتركون جميعاً في التغزل به.. "الأجير والأمير"، فحتّى الإمام يحيى حميد الدين قال في قصيدة يعدد فيها مناقب القات:

أحسن بثغر مليح له المذاب رضاب

ياما أحيلاه ظلماً تشفى به الأحباب

وللنفوس مريح وللنشاط انجذاب

وفي الوقت الذي صنّفت فيه الأمم المتّحدة القات–وهو يُزرع بالمناسبة في دول أخرى إضافة إلى اليمن كأثيوبيا وكينيا وإسرائيل (من قبل يهود اليمن وأثيوبيا الذين لا يتعاطونه محليّاً بل يصدّرونه إلى دول العالم!)- كمادّة مخدّرة، قررته منظّمة الصحة العالميّة منبّهاً ضارّاً بالصحة، ورغم أنّ بعض الدول -كبريطانيا- لا تعتبر القات من فصيلة المخدّرات، لكنّه ممنوع في معظم البلدان الأخرى التي سنّت عقوبات جدّية بشأن تداوله أو تعاطيه، ويتحايل البعض بتجفيفه كمسحوق؛ ليتسللوا به عبر الحدود، لكن منْ يُضبط وفي حوزته أيّ شكل من أشكال القات يُسجن فوراً ويُحاكم, الأمر الذي لم يُفلح في منع القات من الوصول إلى أقاصي الدنيا شرقاً وغرباً.

ممنوع أو مسموح... فأنا ضدّه بشدة، ولا أرى في القات إلّا عادة شيطانيّة تمتص دم اليمن منذ قرون، ويركع لها –للأسف- هذا البلد الجبّار بأكمله بعد ظهر كلّ يوم...

الأربعاء 12-11-2014


من كتاب "في ظلال بلقيس" ريم عبد الغني
جميع الحقوق محفوظة لـ © الجماهير برس RSS