آخر تحديث : الاثنين ( 06-05-2024 ) الساعة ( 5:36:37 صباحاً ) بتوقيت مكة المكرمة
آخر الأخبار :

#عاجل: الاجهزه الامنيه تكشف عن انجاز امني مهم جدا news #تحذير: امطار غزيره وصواعق وتدفق السيول بالمحافظات news #عاجل:سيول وفيضانات مدمرة وانهيارات أرضية تضرب هذه المحافظه اليمنيهnews #عاجل:سيول جارفة وأمطار غزيرة تهدد سلامة سكان هذه المحافظات اليمنية خلال الساعات القادمةnews #روسيا : الضربات الامريكية البريطانية على اليمن غير مقبولةnews #كوبا: تحذر من استمرار العدوان الأمريكي البريطاني على اليمنnews #المرشد الإيراني علي خامنئي تعليقا على بدء الهجوم على إسرائيل: ستتم معاقبة النظام الشريرnews #عاجل: الحدث...اطلاق عدد من صواريخ كروز المواجهه باتجاه إسرائيل news #عاجل: تحذير لكافة المواطنين من مخاطرَ خلال ساعاتnews هذه الدول تعلن يوم غد الثلاثاء المتمم لرمضانnews

تُؤخذُ الدنيا غلابا... من كتاب"في ظلال بلقيس" ريم عبد الغني

تُؤخذُ الدنيا غلابا... من كتاب"في ظلال بلقيس" ريم عبد الغني

الجماهير برس - بقلم / د. ريم عبد الغني      
   الخميس ( 27-11-2014 ) الساعة ( 11:01:55 صباحاً ) بتوقيت مكة المكرمة

:من كتاب"في ظلال بلقيس"

ريم عبد الغني

تُؤخذُ الدنيا غلابا...

ليل صنعاء ساحر.. والليلة تضوع بسحر إضافي.

أخذنا مكاننا بين الحضور فوق الكراسي الخشبيّة التي رُصفت في ساحة وسط البيوت القديمة، كانت فكرة عبقريّة, أن نأتي هنا الليلة لنستمع إلى فرقة صنعانيّة تُنشد الموشحات في هذا المسرح المفتوح.

والفرقة التي انطلقت تنشد بإحساس حقيقي وأصوات دافئة تأسر الآذان والقلوب، مكوّنة من ثلاثة شبّان يلبسون الثوب الصنعاني التقليدي، قميص فوق الـ"زنّة" البيضاء (مثل التنّورة) وفوقهما "كوت (سترة)، يتمنطقون بالجنبيّة ويضعون فوق رؤوسهم "شماطة" أو "قاوق" ملونة (أغطية للرأس).

الإنارة المدروسة لواجهات المباني القديمة تسبغ على المكان جوّه الأسطوريّ، الأبنية الصنعانيّة المُحيطة تبدو كديكورات فيلم خرافيّ.. تُجسّد قمّة التجلّي في ترجمة المشاعر إلى تكوينات، رسوم ونقوش, نُثرت بأناقة وإبداع فوق كلّ مكان؛ لتًُضفي على المدينة روحها المميّزة، بل واسمها.

كلّ الأبنية متشابهة.. ولكلّ منها شخصيّته المنفردة في ذات الوقت، كلّ مبنى قصيدة بأوزانها وتفعيلاتها.. جميع ما فيها ينطق من خلال أحزمة وزخارف بيض لم تترك حجراً إلّا ولثمته، تحكي قصصاً تلامس الروح لأنّها بعض روح نُقشت في حجر وجصّ وخشب فنفختْ في الخطوط والانحناءات وهج حياة. 

تخيّلتها –عشرات الأبنية "المخضرمة" المحيطة بنا- أشخاصاً، وحاولتُ أن أعطي كلّ مبنى اسماً أستوحيه من زخارفه، أنْ أستخلص -من إيقاع التشكيلات التي أُسقطتْ على الواجهات بشكل مبدع- ملامح مَنْ نقشوه.. يلهمني في ذلك المحيط الشاعريّ.. شدو الغناء الشجيّ.. الإضاءة الذكية.. الأحجام الهائلة التي تبثُّ الهيبة بقامتها الفارعة. 

في ساحة وسطها.. فوق كرسيّ صغير.. أنا كائن ضئيل زائل، أمّا هي فتكوينات عمرها مئات السنين قبلي, وربّما تبقى مئات السنين بعدي، تُرى من منّا كان يتأمّل الآخر؟!

الإنشاد الحاني حلّق بروحي بعيداً في غياهب عوالم تعشقها.. ولوهلة.. عشتُ حقّاً قبل ألف عام، من الصعوبة بمكان أن تُحافظ على توازنك وأن تبقى متمسّكاً بموقعك الحقيقيّ من الزمن وأنت وسط هذه الأجواء..

يُعيدني إلى الأرض صوت فوزيّة تدعوني للعودة إلى الفندق.. تبرّمت إذ -رغم تعب نهاري الطويل- يعزّ علي أن أنام وأدع خلفي هذا الجمال الذي لم استكشف كلّ مجاهله بعد.

أتعثّر بذيول عباءتي السوداء -التي لا أُفلح في التعوّد عليها- وأنا أحاول اللحاق بخطوات صاحبتي الواسعة في سيرنا إلى حيث كنّا قد ركنّا السيّارة قرب "باب اليمن".

"لم أعرف أنّ في صنعاء نهراً!" قلت باستغراب ونحن نعبر جسراً حجرياً.

تجيبني فوزيّة وهي تُشير إلى الأسفل "هذه هي "السائلة" أو "السّرار"، تجري فيها السيول المتدفّقة من الأودية حول المدينة والتي تتشكّل بعد هطول الأمطار الموسميّة، فصنعاء المعتدلة صيفاً الباردة شتاءً والغائمة أبداً، غزيرة الأمطار, لا سيّما في موسميها بين شهري ابريل ومايو, وكذلك بين شهري يوليو وسبتمبر، لذلك عرفتْ السيول على الدوام، بعضها قد يأتي خطيراً ومدمراً, كالسيل الجارف الذي انحدر من جبل "نقم" سنة 262هـ/876م، فهدم أجزاءً كثيرةً من شطري صنعاء، ووصف أضراره "الجنديّ" في كتابه "السلوك"، ومنها أنّه هدم ستّة آلاف دار, وكذلك جزءًا كبيراً من الجامع الكبير.

وتفصل "السائلة" -التي شُيّدت فوقها جسور عدّة كهذا الذي نعبره الآن- بين قسمي المدينة الشرقيّ الأقدم والغربيّ الذي أُنشئ في زمن الأيّوبيين، تنحدر نحو الشمال؛ لتتدفّق عبرها المياه على مدار السنة, وتروي مساحات واسعة من أراضي الأجزاء الشماليّة، وطالما اعتُمد عليها لتشغيل مطاحن الحبوب الحجريّة التي لا يزال بعضها موجوداً في صنعاء حتّى اليوم. 

أُسند مرفقيّ على سور الجسر، أتأمّل "السائلة" تحت سلسلة أعمدة الإضاءة العالية التي تسوّرها من الجانبين، شارع عريض مرصوف بالحجارة, مُحاط بجدارين مائلين حجريين ضخمين، أفكّر أنّ "السائلة" -بالإضافة لتجنيبها صنعاء أضرار السيول, بل واستثمارها- قد عُولجت بذكاء لتصبح أحد معالم صنعاء الطبيعيّة والتاريخيّة, وحلّاً لبعض مشاكل المواصلات فيها، فهذا المجرى الضخم الذي يمتلئ بالفائض من مياه السيول في مواسم الأمطار، يُستخدم كذلك طريقاً للسيّارات في أيُام الجفاف... 

في السيّارة، وطوال طريق العودة إلى فندقنا، كنت ساهمة.. لم أستطع التجاوب مع نكات فوزيّة التي لا ترتبط لسوء الحظ بحدث أو توقيت، تزاحم المشاعر والأفكار, أوصد "أبوابي" الخارجية, وساقني بكلّيتي إلى داخلي.. ركّزتُ أحاول العودة حقّاً من أجواء صنعاء القديمة والتحرر من سحرها.. مازلت ُ أسيرة تفاصيلها التي مازالت -هي الأخرى- أسيرة ذكريات أزمان سحيقة مضت..

آلة التصوير الإلكترونيّة التي لا تفارقني فوق حضني.. استعرضتُ على شاشتها الصغيرة "حصيلة" زيارتي لصنعاء من الصور.. لدي على الأقل دليل يؤكد لي بعد انتهاء الرحلة أن هذه اللحظات الجميلة والمشاهد المذهلة لم تكن حلماً.

أُقلّبها تباعاً.. يبدو أنني التقطت كماً كبيراً من صور الأبنية القديمة، لا أستطيع مقاومة إغراء هذه العمارة التي تعجبني إلى حد العذاب، عمارة "مغامرة" تعشق المرتفعات، "عصاميّة" اعتمدت علىَ ذاتِها واستفادت من تجاربها الخاصة لتبدع بموادها المحليةِ البسيطةٍ تكوينات معماريةِ جميلة "شامخة" دوماً نحو الأعلى، بمنتهى الكبرياء ومنتهى العفوية والبساطة أيضاً، عمارة "فرح" بثته من خلال جرأتها وانفتاحها نحو الخارج، في مهرجان ألوانها المبهجة وزخارفها الغنية، عمارة "حكمة" احترمت البيئة والحاجات والتقاليد وارتبط نسيجها العمراني دائماً بمقاييس الانسان.

أتابع تقليب "كنزي" من الصور المتنوعة.. زخارف أبنية، قمريّات، فضّة وجنبيّات، وجوه بشر ونقوش أبواب خشبيّة، رسوم حنّة وسلال قش، و... كل شيء في اليمن يشبهه، علاقة حميمة تربط الانسان هنا بكل ما يصنعه ربّما لأنه "يفعله" بصدق.. ويمكن للعين أن تلتقط بسهولة التشابه العفويّ بين الزخارف التي تُطرّز واجهات المباني اليمنيّة ورسوم الزيّ اليمنيّ التقليديّ.. فوق كلّ ما صنعته يد إنسان في هذا البلد المنقوش على الحجر، كأنّ اليمنيّ يُسقط النقوش المحفورة في أعماقه نحتاً على حجارة البيوت وعلى خشب الأبواب والنوافذ والصناديق, وعلى فضّة الأساور والمكاحل والأحزمة والخناجر.. يودعها كلّها بعض روحه.

صور.. صور.. آخرها صور حفل الليلة.. وها هي ذي صورتي مع فوزيّة فوق الجسر, وتبدو من خلفنا السائلة.. أليست مذهلة؟ (أقصد السائلة وليست فوزيّة!).. ولماذا أستغرب براعة اليمنيين بالتعامل مع كلّ ما له صلة بتصريف المياه وحفظها.. أليسو ورثة أولئك الذين اشتهروا لآلاف سنين خلتْ بعبقريّتهم في إنشاء السدود والصهاريج والخزّانات وزراعة الأرض وإحكام بناء المدرّجات وأنظمة الريّ؟، حتّى أُقيم يوماً ما في منطقة واحدة في اليمن اسمها "يحصب العلو" ثمانين سدّاً، قيل عنها في الشعر اليمني القديم:

وفي البقعة الخضراء في أرض يحصب 

ثمانون سداً تقذف الماء سائلاً.

ويكفيهم شهادة على نبوغهم في هذا المجال سدّ مأرب الشهير الذي بُني في الألف الأوّل قبل الميلاد، ألم يكن "ثورة في عالم الهندسة وتفكير الإنسان"؟.

صرير دوران المفتاح في قفل باب الغرفة.. أرمي بما في يديّ على المقعد القريب وبجسدي فوق السرير.

لماذا لا يرحمني هدير أفكاري فأرقد؟.. جربتُ حيل النوم التي أعرفها واحدة واحدة ففشلت.. أحصيتُ كل الأغنام.. تلوتُ على عقلي المرهق تمارين الاسترخاء، وما من فائدة.. تذكرتُ أمي.. حبيبتي.. هناك في بيتنا الدافئ في اللاذقيّة، لا بد أنها قد نامت الآن لتستيقظ باكراً مع صلاة الفجر، ما كان أحلى حكاياتها قبل النوم حين كنتُ طفلة.. كان فيها سحر يخدرني حالما ينساب من صوتها الحريري شلال الحكاية.. متى توقفت يا أمي عن قص حكايات النوم لي؟ لماذا حين نكبر نستسلم دون اعتراض لحتميّة أن نُحرم مع رحيل أشرعة الطفولة كل الأشياء الجميلة الأخرى؟... طمأنينتها، حريّة أحلامها، أجنحة خيالها, ومتعة حكاياتها أيضاً؟.

شعرتُ بقهر لم تخفف وطأته إلا فكرة متمرّدة.. سأحكي "لي" قصة قبل النوم الليلة.. علّني أغفو أخيراً.. 

كان يا ما كان، منذ قديم الزمان، في الوقت الذي كان فيه العالم غارقاً في الظلام، والإنسان يعيش على الصيد ويقطن الكهوف، كان هناك جنّة على الأرض تُدعى اليمن –كما وصفها القرآن الكريم- ووصف الجنّة هو أدقّ ما يمكن أن تُوصف به الزراعة في اليمن، حيث كان يُزرع في زمن ما-من بين أنواع مزروعات كثيرة عدّدها الهمداني في كتابه "الإكليل"- ثمانية عشر نوعاً من العنب.

والتطوّر الزراعي الكبير كان نتاج وأساس الحضارات العريقة المتتابعة ، كممالكِ مَعين وسبأ وحضرموت وقتبان وأوسان وحمير، وذو ريدان، ويمنات، التي قامت على أرض اليمن منذ القدم. 

وهكذا، ازدهرت أيضاً التجارة والعمارة، وأتاح الموقع ِالجغرافي لليمن طوال ثلاثة عشر قرناً احتكارَ أسرار تجارة الشرق والوساطةِ التجاريةِ بين أمم الشرق وشمالي ِالجزيرة ِالعربيةِ ومصرَ وبقيّة دول ِالمتوسط، وكانت خبرة اليمنيين في التجارة والزراعة والإدارة وحتى القتال هي إحدى الأعمدة الأساسيّة التي قامت عليها دولة الإسلام. 

دول عظيمة تعاقبت فوق هذه الأرض، تفوّقتْ بتقدّمها, وتألّقت بمجدها, حتّى أشار إليها العالم أجمع ب"اليمن السعيد".

ثم ماذا؟ تعددت طرقُ التجارة في العالم، وعانت اليمن ُويلات الصراع ِالداخليِ.. انهار سدّ مأرب في القرن السادس قبل الميلاد.. فأفـَلَ نجمُ اليمن و"تفرّقوا أيدي سبأ". 

من بعدها يبدو أنّ اللعنة حلّت على اليمن حتّى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على ذمّة الطبراني والهيثمي: "أين أصحابي الذين أنا منهم وهم منّي؟، قيل له: يا رسول الله أخبرنا ؟، قال:نعم، أهل اليمن, المطروحون في أطراف الارض, المدفوعون عن أبواب السلطان, يموت أحدهم وحاجته في صدره لم يقضها".

تُرى هل يعود اليمن "سعيداً" أبداً.. في مكانته الأولى التي يستحقّها بين الأمم؟.. 

النعاس بدأ يفعل فعله، أسارع إلى إنهاء الحكاية التي كنت أحكيها "لي" قبل أن أغفو، أجيب: نتمنّى من أعماق قلوبنا ولكن:

وما نيلُ المطالب بالتمنّي ولكن تُؤخذ الدنيا غلابا


من كتاب"في ظلال بلقيس" ريم عبد الغني
جميع الحقوق محفوظة لـ © الجماهير برس RSS